يا طالب العلم ..
اعلم علمني الله وإياك أن إصلاح النية والإخلاص وتوجه القلب أول ما يبدأ به قبل أي عمل لذلك كان من حسن صنيع العلماء في تصانيفهم أن يبدأوا بذكر حديث (إنما الأعمال بالنيات..) وفي رواية بالنية، في أول الكتب كما صنع البخاري –رحمه الله- في صحيحه والنووي في رياضه وغيرهم من أهل العلم لأن الله لايقبل من العمل إلا ما كان صالحا وابتغي به وجهه. وكيف يصح سعي طالب العلم الذي سلك طريق الجنة ليكون من ورثة الأنبياء دون أن يصحح نيته ويخلص قصده ويتوجه بقلبه إلى الله لايتوجه إلى غيره ولايلتفت إلى سواه.
وقد أمر الله بالإخلاص في كتابه فقال: (فاعبد الله مخلصا له الدين)، وقال: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين).
واعلم أن النية تؤثر في العمل وهي سبب لفلاح العبد وفلاح عمله أو طلاحه وفساد عمله والعياذ بالله. وتأمل هذا الحديث (ثلاث حق على الله عونهم، المكاتب يريد الأداء والمجاهد في سبيل الله والناكح يريد العفاف)، فهو يعان من الله لأنه يريد الأداء ويريد العفاف. وهذا الحديث أيضا (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله). فانظر كيف تؤثر الإرادة في العمل والإعانة والخذلان وقد عزى كثير من المؤرخين انتشار كتب بعض العلماء وعلمهم وما لاقوا من القبول في أوساط المسلمين، عزوا ذلك إلى إخلاصهم وحسن قصدهم والله الحسيب.
والنية سبب لجمع الشمل أو تفرقه ففي الحديث (من أصبح والآخرة نيته جمع الله له شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن أصبح والدنيا نيته فرق الله عليه شمله وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له).
والنية أبلغ من العمل والعبد يؤجر بنيته أكثر من عمله ففي الحديث (إن بالمدينة لرجال ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم في الأجر، حبسهم العذر) فانظر كيف أثيبوا وأجروا وهم بالمدينة. وتأمل الحديث:ـ قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-إنما الدنيا لأربعة نفر:
1- عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتقي فيه ربه ويصل رحمه ويعلم لله فيه حقا فهذا بأفضل المنازل.
2- وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا، فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان فهو بنيته، فأجرهما سواء.
3- وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما، يخبط في ماله بغير علم لايتقي فيه ربه ولايصل فيه رحمه ولا يعلم فيه حقا فهذا بأخبث المنازل.
4- وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول: لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان فهو بنيته، فوزرهما سواء). –رواه الترمذي في كتاب الزهد وقال حسن صحيح، وابن ماجه وقال الألباني: صحيح-. وهذا الحديث فيه فضل العلم مع التنبيه على خطورة شأن النية فيه.
قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه).
واعلم أن الإخلاص شديد ومعالجة النية تحتاج لجهاد طويل. قيل لسهل التستري:أى شيء أشد على النفس؟ قال: (الإخلاص إذ ليس لها فيه نصيب). يقول سفيان الثوري –رحمه الله- : (ما عالجت شيئا أشد علي من نيتي).
فالنفس تحب الظهور والمدح والرياء وتميل إلى البطالة والكسل وزينت لها الشهوات ولذلك قيل تخليص النيات على العمال أشد عليهم من جمع الأعمال. وقال بعضهم: (إخلاص ساعة نجاة الأبد، ولكن الإخلاص عزيز).
فجاهد نفسك في إخلاص النية وكن بين خوف ورجاء وحسن ظن بالله وسوء ظن بنفسك وأبشر فإن العلم سبب لصلاح النية. يقول الدارقطني: (طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله). قال تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين). فينبغي لطالب العلم ألا يفتر عن محاسبة نفسه ومراجعة نيته. كان الحسن البصري كثيرا ما يعاتب نفسه ويوبخها فيقول: (تتكلمين بكلام الصالحين وتفعلين فعل الفاسقين المنافقين المرائين والله ما هذه صفات المخلصين).
قال الذهبي –رحمه الله-: (ينبغي للعالم أن يتكلم بنية وحسن قصد. فإن أعجبه كلامه فليصمت وإن أعجبه الصمت فلينطق، ولا يفتر عن محاسبة نفسه فإنها تحب الظهور والثناء).
قال هشام الدستوائي: (والله ما أستطيع أن أقول أني ذهبت يوما قط أطلب الحديث أريد به وجه الله –عز وجل-)، قال الذهبي معلقا: (والله ولا أنا فقد كان السلف يطلبون العلم لله فنبلوا وصاروا أئمة يقتدى بهم وطلبه قوم منهم أولا لا لله وحصلوه ثم استفاقوا وحاسبوا أنفسهم فجرهم العلم إلى الإخلاص في أثناء الطريق، كما قال مجاهد وغيره: (طلبنا هذا العلم وما لنا فيه كبير نية ثم رزق الله النية بعد). وبعضهم يقول: (طلبنا هذا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله). فهذا أيضا حسن ثم نشره بنية صالحة. وقوم طلبوه بنية فاسدة لأجل الدنيا وليثنى عليهم فلهم ما نووا, قال –صلى الله عليه وسلم-: (من غزا ينوي عقالا فله ما نوى)-6401 صحيح الجامع-)انتهى كلام الذهبي في السير –نقلا عن منطلقات طالب العلم-.
واحذر يا طالب العلم الرياء وفساد النية فإنه محبطة للأعمال مؤدية إلى النيران. قال تعالى في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه). وقال –صلى الله عليه وسلم-: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسئل عنه فقال: الرياء). وقال: (من طلب العلم ليباهي به العلماء، ويماري به السفهاء وليصرف وجوه الناس إليه فهو في النار).-صحيح الجامع-. وفي الصحيح (أول من تسعر بهم النار ثلاثة..-ذكر منهم- رجل تعلم العلم ليقال عالم وقرأ القرآن ليقال قاريء). نسأل الله العافية.
واحذر من ترك الأعمال أو ترك طلب العلم بزعم خوف الرياء وفساد النية وعدم توفر الإخلاص فلو كان ذلك واجبا ما عمل أحد الواجبات الظاهرة – كالجهاد والخطابة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصلاة الجماعة وغير ذلك – وأفضى ذلك إلى ضياع الدين. بل اعمل واطلب العلم وجاهد نفسك في إصلاح النية وتوجه القلب فهذا حال المؤمنين، قال تعالى: (والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون) قالت عائشة: يا رسول الله، أولئك الذين يزنون ويسرقون؟ قال: (لا، يا ابنة الصديق، أولئك الذين يصومون ويصلون ويخافون ألا يتقبل الله منهم) – رواه الترمذي وصححه الألباني - .
مما يعينك على إصلاح النية وعلاج فسادها أمور منها:
1- مشاهدة كمال الله وقدرته وعظمته وغناه وفضله، وعجز العباد وضعفهم وذلتهم وفقرهم وحاجتهم، فكيف تطلب الثواب من الفقير الضعيف وتدع الغني القادر – سبحانه وتعالى - .
2- التفكر في الآخرة ونعيمها وعذابها وأن ما عند الله خير وأبقى .
3- التأمل في سرعة انقضاء الدنيا وفنائها فلو نلت فيها شيئا سرعان ما يزول.
4- الدعاء والإلحاح على الله أن يصلح قلبك ونيتك ولا تنسى دعاء (يا حي يا قيوم أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا). ودعاء (اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئا أعلمه وأستغفرك مما لا أعلمه.
5- ذم النفس ومحاسبتها دائما على أمر النية.
6- الحذر من الإعجاب وحب المدح وحب الرياسة والظهور ومعالجة ذلك في نفسك، وقديما قيل: (حب الظهور يقسم الظهور). يقول أحد الصالحين: (آخر الأشياء نزولا من قلوب الصالحين حب السلطة والتصدر). وحب الجاه والشهرة يفسد الدين، قال –صلى الله عليه وسلم-: (ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه). وكان السلف أبعد الناس عن حب الشهرة، قال بشر بن الحارث: (ما اتقى الله من أحب الشهرة). وقال ش لي ولك صلاح القلوب وحسن النية، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.